ذكريات الماضي
ذكريات الماضي الفصل الاول ( كان قبل ما اكون )
كان الجو عاصف ، والثلوج تغطي البلاد وفوق برد الأجواء وقساوة الحياة، كان ألم الحرب مشتعلا ، هكذا اخبروني عن يوم مولدي حين بلغت الثلاث أعوام .
ستكون الحياة صعبه حينما يخبرك أحدهم أن يوم قدومك إلى هذه الحياة هو نفس اليوم الذي تشتعل فيها الدنيا فوق رأسك بالحرب والموت، لتكون ذو الثلاث أعوام ، ذلك الطفل ، أكثر مخاوفه هو الموت ، حينما تسئلهم ما هذا ؟.
إنها إحدى المنازل التي انفجرت ، وراح ضحيتها الكثير ، وصوت المدافع والصواريخ تدوي ، وأنا لا افهم شيء لكن بعمري هذا الذي لم يكاد تعدى الثلاث سنوات ، أيقنت أن الأمر متعلق بالموت ، والموت كان للطفل شيء بشعا جدا .
حاولت فهم الامور ، لكن لم يتمكن دماغي من جمع الصور بشكل كافي لاعرف اين انا وما الذي يحصل بالضبط ، لكن كل ما استطيع تذكره في تلك الحقبة هو الرعب على وجوههم ، والخوف والألم الذي أصابهم ، والأحزان التي لم أكن افهمها اطلاقا .
لكن بكل الحالات استمرت الحياة مع استمرار خوفي مما يحصل في هذا العالم الذي انا لا استطيع تحديد مكاني فيه ، او تحديد الاحداث التي تجري ، لكني كنت أخاف من خوفهم ، فكل شيء في ذلك الوقت كان مخيفا لي .
مضت الايام وبدأت تستقر الحياة ، لكن كبر خوفي ، مع ان كل الامور التي كانت مخيفة لي في ذلك الوقت انتهت ، وخلفت ورائها ما خلفت ، وتركت اليتامة وتركت الحزن والمجاعة ، وتركت المتيمه بعشيقها منتحبة وباكية على فراق حبيبها ، والابنة على فراق ابيها ، والزوجة تلطم خدها بالتراب ، فقد فقدت سندها في هذه الحياة .
لم اكثرث كثيرا ، فأنا لا اعلم ما يحدث ولم يكن عقلي يستوعب كل ههذ الامور سوى تخزين الصور والمشاهد وفهمها في يومنا هذا .
إستمرت الأيام بهدوء ، بهذا العالم الذي ضن عقلي الطفولي ان مركز ومحور هذا الكون ، وبدأ التحاقي في الدراسة وبدأت كأي طفل يعيش حياته الطبيعية ، لكن لست كغيري ولست في نفس المكان الذي يعيش فيه العالم ، فالاحداث لا تنتهي .
ذكريات الماضي الفصل الثاني ( الموت لعبة الطفولة )
لم اكمل الثماني سنوات حتى يشتعل فتيل الحرب ، لكن هذه المرة اشد قسوة واشد قوة واشد خوفا ، أصبحت أيقن ما هي الحرب ، وما هو الموت ، وكيف يكون بشعا، وكيف لهذه الحرب ان تفقدك الناس من حولك ، وكيف لها من أن تجعلك تترك بيتك المهدم ، وترحل وتعيش في خيمة .
هذه الخيمة التي كانت تأوي عشرة اشخاص أصغر من ان تأوي شخص واحد ، كانت هذه الخيمة التي تأوينا مكان قدر ومحزن ومظلم ، باردة في الشتاء فلا دفئ فيها ، ويقتلك حر الصيف .
اصبح العالم الذي اعيش فيه اشبه بحضيرة تأوي البشر ، الرجال والنساء والاطفال فيه على حد سواء ، الكل فيها لا يعمل ، جالسون يتحسرون ، وينتظرون لقمتهم التي تأتي بها منظمات الغوث .
في ذلك الوقت لم يكن يهمني كل ذلك ، فما زلت طفل في وقتها ، كنت ابحث عن الامور المسلوبه مني بعيدا عن تلك الخيمة ، كنت اسير واسير حتى اصل الى جدار شائك من الاسلاك الحديدية، انها مخلفات الحرب ، واجلس هناك حتى غروب الشمس .
شدني موقف احزنني في يوم من الايام حين عودتي ، النساء تصرخ والرجال التي لا يرف لها جفن جالسين حزينين، حينها عرفت ان هناك خبرا لإحدى الأمهات قد وصل وحمل لها وفاة ابنها البكر .
في كل مشهد من هذه المشاهد في ذلك العمر كان يقل عندي شعور الخوف ، ويزداد عندي شعور الحزن والالم والمقت .
في احدى ايام الصباح ، كانت إحدى النساء والتي كانت بالعشرينات من عمرها تجلس بعيداً عن الخيمة التي تسكن بها ، تجلس لوحدها حزينا باكية ، اقتربت منها اكثر ، لاجدها جالسة بجانب قبر .
سألتها بفطرتي عن سبب كل هذا الحزن وعن هذا الشخص التي تجلس بجوار قبره ، انها حبيبة الشاب الذي توفي اثر الحرب ، والذي شهدت جنازته في ليلة عودتي من رحلتي بعيدا عن الخيمة، يا ليتني لم اسأل .
المسكينة لم تترك لي شيء إلا روته لي عن قصة حبها ، كانت تشتكي لطفل ، لكنها نسيت اني لا انسى ، واني سأكبر واحتفظ بتلك القصة التي لطالما تحزنني حتى وقتنا هذا .
ذكريات الماضي الفصل الثالث ( أوراق الخريف )
انه وقت الخريف التي تتساقط فيه اوراق الشجر لتغطي بأوراقها المتساقطة قبور من فقدنا ومن احببنا ، مرت سنوات على هذا الامر لكن الامر وكأنه حديث العهد .
انتقلنا من تلك الخيمة التي لطالما بغضتها ، ولطالما ستكون عنواني فيما بعد، وتكون نقطة التغير في مسار حياتنا ككل الى الابد ، واصبحنا نعيش تحت سقف يأوينا ، كان الامر صعبا وشاقا حتى وصلنا الى تلك المرحلة والتي لم تكن عائقا لدى غيرنا بيوم من الايام .
اصبحت الان ادرك ما يدور من حولي ، فقد كبرت ، وايقنت اني اعيش في تلك البقعة من الارض ، تلك البقعة التي تملأها الصراعات والملاحم ، تلك البقعة من الارض التي يموت فيها الكثير بسبب بعض من كلمات احدى السياسيين وهم يشربون فنجان من القهوة .
لم اكثرت كثيرا ، والحرب انتهت ، لكني اعلم انها ستعود لا محال ، ولا مجال لي بأخد قرار في تلك الحياة ، فلست إلا كقطعة من احجار الدومينو ، تسقط عندما يريدون ، فكان علي لزاما ان اعيش غصبا وقهرا كما يريدون .
التحقت بالجامعة ، لم اعرف ما اود دراسته ، فأنا مشوش ، نعم كنت في تلك الفتره اعيش في تشويش كبير ، فما بالك بإنسان مولده ونشأته بين ثنايا الحروب .
بدأت اعوام الدراسة الجامعية ، وكان اجمل ما فيها تلك الفتاة ، والتي دائما ما كنت احاول قدر الامكان التقرب منها والتودد اليها ، كانت دون غيرها تلفت انتباهي وتشدني اليها حتى كلمتها .
مع مرور الايام وقعت ووقعت في حبها ، هذا الحب قد محى من ذاكرتي الكثير من ويلات الحرب والتهجير والغربة ، الظلم الاستعباد القهر الاستبداد ، انساني كل هذه الامور طالما كنت وكانت معي .
لا استطيع نسيان او كتمان اوقاتي معها ، فقد كانت عالمي دولتي عاصمتي ، كانت كل شيء ، في شعرها المنسدل وعيناها الاقرب للاخضر ، وجسمها الممشوق ، اما عن نظراتها الي وانا اتكلم؟ فتلك كانت قصة اخرى يصعب علي ان ارويها .
كانت تحسن الاصغاء ، وكانت تعرف ما بي من الم وحزن ، كانت تتركني اتكلم وتشخص ببصرها في عيني ، لم أذكر مرة انها قاطعتني او برأي خالفتني ، او حتى احزنتني .
كانت بمثابة إشراق شمس الصباح ، كانت قهوتي التي احتسيها صباحا ومساءا وكل الاوقات ، كانت كل شيء بالنسبة لي .
لا اصدق اني كنت التقي بها كل يوم على مدار عامين من الدراسه ، شيء لا يصدق ، حتى اني انعزلت معها وبها عن العالم ، الم اقل لك انها اصبحت عالمي ؟ احتلت ممالك قلبي وحطمت اسواره ، ورفعت لها الراية البيضاء مستسلما امامها وامام نظرات تلك العيون الساحرة .
جعلتها تدخل حصن قلبي كما حصل في طروادا ، وعزلت الحراس جميعهم ، وهيئة لها اقتحام الاسواؤ واتمام الاحتلال واعلان الانتصار .
لم اكن اعلم انا ما نسيته او تناسيته انه سيعود ، لم اتوقع ولم اتخيل ان الحرب ستدق طبولها ، انساني هذا الحب المكان الذي اعيش فيه ، انساني هذا الحب البركان الهائج الذي يقبع تحت اقدامنا ، وانساني الويلات وانساني ما سنلاقيه من ويلات .
ذكريات الماضي الفصل الرابع ( تائه بين الفصول )
اندلعت الحرب الاهلية في البلاد ، واصبح القتل وسفك الدماء والمجازر ترتكب بحق وبغير حق ، لم يكن احد فينا يعرف مع اي صف يقف او ضد من ، التيارات الفكريه جميعها اختلفت ، والكل يقاتل بأسم الحق ، حتى أصبحت أشد علينا من الحرب بحد ذاتها .
تعطلت جميع مناحي الحياة ، واصبحنا نعيش كابوس تلك الحرب الاهلية والصراعات ، واصبح القتل شيء يجب ان نسمع به يوميا لا محال ، لكن هذه المره لم اخف على نفسي ،بل بدأت اخاف على من حولي وبدأت اخاف على من احب .
ليتم ارتكاب اكبر مجزرة دموية بحق بلدة كامله يكونون فيها ضحايا بشيوخها ورجالها واطفالها ونسائها ، وليكون الشخص الذي انساني هذا العالم من هذه الضحاية .
تم قتل اهلها واخوانها واغتصابها وقتلها بشكل وحشي ، تم ابادت اهل بلدتها واهلها ، ليتمزق قلبي ، ويموت قلبي مع حرماني من رؤيتها .
لاحاول كسر القيض بالحقد الذي امتلأ قلبي ، ليكون مصيري القمع والتعذيب ، هذه المره هم نفسهم اهل بلادي واولاد جلدتي وديني من قتلوا اهلنا ومن نحب ، لقد اداقوني الويلات ، حتى خرجت لاحتاج الى طبيب ومعالج لكي يستطيعوا أن يجعلوني أمشي على قدماي بعد سنه من العلاج .
تركت دراستي ، واصبحت كالضائع ابحث عن مكان يخلصني من هذا الحزن، الحزن الذي اصابني كما لو كنت في تلك الخيمة التي لطالما حاولت نسيانها ومحوها من فكري وعقلي واحلامي ومخاوفي، واهرب بها الى اواخر الجبال البعيدة .
مر سنتان على تلك الحرب الاهلية ، لتستقر الامور ، وتحاول البلاد العودة والوقوف على أقدامها ، كان الامر صعبا ، وسينسى الناس ما حصل ، لكني فقدت من جعلني أنسى ويلات الجحيم ، وأصبحت محطما اسير قلبي مكسرا تائها ضائعا بين الحقد والكراهية .
ذكريات الماضي الفصل الخامس ( وحيدا في الغربة )
كان لا بد لي من أن اقف مرة أخرى على قدماي وانهض ، ولا انكر انني لا استطيع نسيان ما حصل ، لقد اصابتني الهلوسات في احلامي ، فكلما نمت او غفوت اتذكر تلك الفتاة التي احبتني .
كانت وكأنها تصرخ ، كانت وكأنها تستنجد بي ، وكنت كمن اصابه الشلل والاعمى والذي لا يستطيع الوقوف ، وكمن اصابه الصمم في اذنيه ، ودموعه كنار تحرق وجهه .
كان القرار في هذه المرحلة علي صعبا كثيرا ، لكن كان لا بد عنه ، قمت بتجهيز نفسي وسافرت للخارج مهاجرا لا ارغب بالعودة، كان الامر اشبه بمستحيل ، لكن شعوري بالبغظ للمكان الذي انا فيه جعلني لا اتراجع ولا اكل او امل .
فعلا ، سافرت الى اوروبا وعشت هناك لعدة سنوات ، نجحت ببناء نفسي وترميم الحطام الذي بداخلي قدر الامكان ، لكن الترميم كان أشبه بجمع زجاج متكسر ، حينما اكتمل اصبح كلوح بشع المنظر والشكل ، لكنه كان يفي بالغرض .
طيل هذه السنوات ، إشتقت لبلدي ، لاهل بلدي ، لاهلي ، للحياة في مكان مولدي ، حتى للخيمة التي كنت ابغض رؤيتها ، وحتى ريحها النتن كان اشبه بالمسك لي ، فمنها مولدي ، ولا يبتعد الغصن عن جذور الشجرة مهما امتد .
لم ادع طريقة من اجل محاولة زيارة بلدي الا وقمت بها ، لكني كنت ممنوعا من العودة ، من يذهب لا يعود .
غربة في القلب والوطن ، غربة الحبيب والاهل ، غربة لا لقاء فيها ، مارسوا علينا الحرب والتعذيب ، طردونا وطردنا انفسنا من تلك البلاد .
والغربة موحشة مؤلمة موجعا ، لا احد يسأل عنك فيها ولا تسأل ، عن اي بشر يتكلمون ، أكاد لا اعرفكم من انتم ؟ قتل وذل واستبداد .
لو كان الامر بيدكم لمنعتم عنى اشعة الشمس والهواء ، كما فعلتم بالارض والاكل والماء .
قتلتمونا ، وحرقتم طفولتنا وهجرتمونا ، وجعلتمونا نكبر في ذل وخوف ، قتلتم واغتصبتم من نحب ، ودعستم على كرامتنا باقدامكم ، ومن ارضنا طردتموما وبالعودة اليها منعتمونا .
الى تلك الارض بدمع العين ..... اكتب ،،،،،
اشتقت الى ريح الصنوبر فيكي.
ستكونين انتي لا سواكي ، مهما عاش فيكي الظالمون .
ستكونين انتي حبي وعشقي ، مهما غذر بك الغادرون .
وانتي روحي لم تفارقني ، وإن عنكي ابعدوني .
انتي المولد والمحيى والممات.
عذبوكي واغتصبوكي ، ظلموا اهلكي مقتوكي .
وبكل هدوء ما زلتي انتي انتي ، لا احد سواكي .
يا من عليكي كان مولد من احببت .
يا من عليكي كان وما سيكون .
وعليكي سوف يشهدون .
وانتي ارض الحق والظلم فيكي لن يدوم .
انتي سري ، انتي حبيبتي ، انتي كياني .
اصمدي وصبري ، لطالما ذهبوا وبقيتي.
ودمع عيني يرويكي .
وحضن من مات انتي.
وانتي الخير فيكي لا فيهم.
وبدمع العين يا ارض ،،،،،،،، اليك اشتكي .
عنكي يا ارض ابعدوني.
ومن احب قتلوا وعذبوني.
و هدموا بيتي وشردوني.
وفي خيمة عليكي اسكنوني.
قتلو عليكي من احب.
وعنكي ابعدوني.
وانا انظر اليك بشوق.
والموت عليكي اشتياقي .
لكني سأموت بعيدا عنكي .
تعليقات
إرسال تعليق